شارفت جائحة كورونا على إتمام عامها الثاني وقد خلّفت آثارًا على الصحة الجسدية وتداعيات اقتصادية لا مثيل لها شكلت ضربة قاسية على معظم القطاعات والأعمال .

ولعلّ أبرز عواقبها ظهرت على الصحة النفسية لدى عامة الناس وبالأخص على الموظفين في مختلف القطاعات ، الذين تعرّضوا لضغوط كبيرة في ظلّ عدم الأمان الاقتصادي ومتطلّبات العمل المرهقة .

أشارت الدكتورة صالحة أفريدي ، أخصائية علم النفس السريري في LightHouse Arabia ، وهي مدرّب معتمد لبرنامج Mental Health First Aid في الإمارات إلى مدى "أهمية الصحة العاطفية والنفسية لضمان سير الأعمال بنجاح والحفاظ على سلامة البلاد " ، وأضافت: " لأول مرة في التاريخ، انعكس تأثير الصحة النفسية للموظفين على قطاع الشركات بشكل مباشر. بالتالي يجب على الحكومات والشركات التنبّه لهذا الأمر ، إذ لم يعد من الممكن اعتبار الصحة النفسية " ِشأنًا خاصًا".

تشير الأرقام إلى تأثير الوباء البالغ على الصحة النفسية. وفقًا لدراسة أجرتها Oracle و Workplace Intelligence العام الماضي ، كان عام 2020 هو العام الأكثر إرهاقًا في التاريخ بالنسبة للقوى العاملة في العالم. وقد بيّنت الدراسة ، التي استطلعت أيضًا آراء العمال في الإمارات ، أن 91% من الأشخاص اعترفوا بتأثير مشاكل العمل على حياتهم الخاصة بشكل سلبي ، بينما قال 77% أنهم لا يفضلون التحدّث إلى رب العمل بشأن مشاعر القلق وضغوط العمل التي يمرّون بها .

من جهة أخرى ، واجه رواد الأعمال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أيضًا ضغوطًا كبيرة . حسبما أفاد تقرير صادر عن EMPWR و WAMDA و Microsoft for Startups. ، هناك ما يقارب 35.9% من مؤسسي الشركات الناشئة يعانون من حالة نفسية سيئة بينما يخصّص 44.2% ما لا يقل عن ساعتين أسبوعيًا للاسترخاء والتخلّص من ضغوط العمل .

وأضاف التقرير أنه يتم تخصيص 2% فقط من ميزانيات الرعاية الصحية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمعالجة قضايا الصحة النفسية ، مما قد يتسبب في عبء اقتصادي قدره تريليون دولار بحلول عام 2030 نتيجة تأثير الوباء بشكل سلبي على نفسية روّاد الأعمال الشباب .

وفي هذا السياق قالت سوسن غانم ، العضو المنتدب المشترك لشركة العلاقات العامة Active DMC.أنّ " الصحة النفسية هي أولوية الآن أكثر من أي وقت مضى ، لذا يتعين على الشركات الاستجابة لمخاوف وقلق الموظفين وإلا سيتحمّلون نتائج تدهور صحتهم النفسية على أدائهم في العمل . بالتالي لا بدّ أن يتحمّل أرباب العمل مسؤولية تزويد موظفيهم بالدعم النفسي وتوفير المرونة مما سيصبّ في صالحهم في نهاية المطاف . "

 رغم أن تأثير الوباء على الناس كان بدرجات متفاوتة، إلا أنّ الجميع دون استثناء يحتاج إلى الدعم ، سواء عن طريق الزملاء أو أصحاب العمل أو عبر وضع سياسات مرنة لتسهيل أمور الموظفين . 

قالت سنيها جون ، أخصائية علم النفس الإكلينيكي في عيادة ميدكير كامالي للصحة النفسية : " على الموظفين مراعاة التغيرات التي قد يلاحظوها لدى زملائهم سواء في شخصيتهم أو أدائهم ، لأنها قد تدلّ على تأزّم نفسيتهم ومرورهم بظروف صعبة ".

وأضافت : " يجب على المدراء إتاحة المجال أمام الموظفين للتحدث عن مخاوفهم والإجابة على أسئلتهم وطمأنتهم بشأن سير الأعمال وغيرها من الأمور التي قد تخطر ببالهم . يمكن أن يتبنّى المشرفون برنامج مساعدة الموظف الذي طوّره المتخصصون الأكاديميون لتزويدهم بالموارد اللازمة للتعرف على المشاكل المتعلقة بالصحة النفسية وكيفية التعامل معها ".

وأردفت قائلة: "هذا ويجب أن تستضيف المؤسسات بانتظام ندوات حول الصحة النفسية والاستشارات الفردية يقدّمها متخصّصين في هذا المجال . وعلى أرباب العمل إفساح المجال لإجراء محادثات سرية خاصة مع الموظف ، فحين يبدي المدير اهتمامه وتعاطفه سيشعر الموظف بالراحة والأمان ".

السعي نحو التغيير

في خضم جائحة كوفيد -19، تبنّت الشركات نظام العمل عن بعد كبديل لمتابعة سير الأعمال. في حين أن الإجراءات الوقائية وحملات التطعيم واسعة النطاق ساهمت في عودة الموظفين إلى مكان عملهم، غير أنّ تداعيات الوباء على الصحة النفسية أثارت جدالًا واسعًا . في الأسابيع والأشهر التي أعقبت الأزمة الصحية، تبنّى أرباب الأعمال نهج المرونة في سياسات العمل . وفقًا لاستطلاع Cigna 360 ° للصحة النفسية لعام 2021 ، يفضل 41% و 43% من الموظفين في المكاتب، في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على التوالي ، العمل من المنزل بدوام كامل.

تعمل العديد من الشركات في جميع أنحاء العالم على مواءمة سياساتها بما يتماشى مع التوجّه الحالي لضمان إنتاجية أكبر وإرضاء الموظفين.

وبحسب ما ورد سمحت شركة برايس ووترهاوس كوبرز لـ 40 ألف من موظفيها المقيمين في الولايات المتحدة بالعمل عن بعد بدوام كامل. هذا وسمحت شركة فيسبوك ، اعتبارًا من 15 يونيو ، لموظفيها العمل عن بعد . أما شركت أمازون فقد اتبعت سياسة المرونة مع موظفيها، قال آندي جاسي ، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون ، في رسالة إلى الموظفين: ، " سنترك للموظفين حرية اختيار العمل عن بعد بدلاً من إلزامهم بالعمل في المكتب لثلاث أيام أسبوعيًا" . في شهر يونيو ، أطلقت منصة Careem متعددة الخدمات برنامجًا تجريبيًا ، تطلب من الموظفين في الإمارات العربية المتحدة العمل في المكتب يومًا واحدًا كل أسبوع. هذا البرنامج مستمر حتى إشعار آخر.

يشار إلى أنّ العديد من الشركات تبنّت تجربة مفهوم أسبوع العمل 'المكثف' لمنح الموظفين مرونة أكبر. قال غانم : " سواء كان العمل لمدة أربعة أيام هو الحل الأصحّ كي تظل الشركة قادرة على المنافسة أم لا ، لكن لا بدّ لجميع المؤسسات الأخذ بعين الاعتبار ساعات العمل المرنة والمخفضة في ظلّ التوجه العالمي نحو اعتماد التكنولوجيا والأنظمة الرقمية."

الاستثمار السليم

إن إدراك مدى أهمية الصحة النفسية يحتّم طلب المساعدة. ومع ذلك ، قد تكون 'التكاليف الطبية غير التقليدية' المرتبطة بالصحة النفسية مرتفعة نوعاً ما ، مما يمنع الموظفين من طلب المساعدة  في هذا المجال.

من جهته قال الدكتور أفريدي :" لا تزال هذه مشكلة كبيرة في مجال الصحة النفسية. نحن بحاجة إلى تغيير هائل في سياسة الشركات وشركات التأمين حيث ينبغي توفير التغطية الكاملة لتكاليف العلاج النفسي '.

'تعتمد التغطية الصحية حاليًا على اعتقاد قديم وغير صحيح مفاده أن الصحة النفسية والجسدية هما جزءان منفصلان. من الواضح أن شركات التأمين تدرك وتعرف أن الصحة النفسية السيئة ستؤدي إلى مشاكل صحية بدنية خطيرة. في الواقع ، أكثر من 80% من جميع المخاوف الصحية الأولية ناتجة عن الضغوط العاطفية والنفسية '. إنّ تقرير أطلس للصحة النفسية لعام 2020 الصادر عن منظمة الصحة العالمية  (WHO) قد سلّط الضوء على النقص العالمي في الاستثمار في الصحة النفسية. في عام 2020 ، أفادت 51% فقط من الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية أن سياستها أو خطتها المتبعة في مجال الصحة النفسية تتماشى تمامًا مع الصكوك الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان . سيؤدي تعويض التكاليف المالية المرتبطة بالصحة النفسية ومنح الموظفين الوصول إلى خدمات دعم عالية الجودة إلى تحقيق قدر أكبر من الشمولية.

تولي المسؤولية

لا شك أن تبني الناس نظرة شمولية للصحة قد سلّط الضوء على الصحة النفسية . وفقًا لاستطلاع Cigna ، على مستوى العالم ، أشار 68% من المستجيبين إلى أهمية الصحة النفسية وتأثيرها على صحة الشخص وسعادته . ، بينما أشار 67% إلى تأثير الصحة الجسدية

.

بيّن الاستطلاع أن الموظفين أصبحوا أكثر وعيًا باحتياجات الرعاية الصحية الخاصة بهم ويبحثون عن برنامج تأمين صحي يوفر لهم راحة البال. بالتالي ستصبح الصحة النفسية أمرًا أساسيًا لدى الموظفين وليست قضية جانبية نظرًا لتأثيرها المباشر على أدائهم وقراراتهم المهنية . في ظلّ توفير خدمات رعاية الصحة النفسية ، وإجراء المحادثات المتميزة حول خدمات الدعم النفسي والاهتمام بالجانب النفسي للموظفين ، فإننا قد نشهد تغييرات هامة في هذا المجال بحلول عام 2022